كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وقوله في هذه الآية: {ما قدمت يداه} أي ما قدم من أعمال الكفر. ونسبة التقديم إلى خصوص اليد لأن اليد أكثر مزاولة للأعمال من غرها من الأعضاء، فنسبت الأعمال إليها على عادة العرب في كلامهم، وإن كانت الأعمال التي قدمها منها ما ليس باليد كالكفر باللسان والقلب، وغير ذلك من الأعمال التي لا تزوال باليد كالزنى. وقد بينا في كتابنا دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب وجه الجمع بين قوله: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن ذُكِّرَ بِآيِاتِ رَبِّهِ} الآية، وقوله: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افترى عَلَى الله كَذِبًا} [الأنعام: 21] ونحو ذلك من الآيات. وأشهر أوجه الجمع في ذلك وجهان: أحدهما- أن كل من قال الله فيه: ومن أظلم ممن فعل كذا، لا أحدأظلم من واحد منهم. وإذًا فهم متساوون في الظلم لا يفوق بعضهم فيه بعضًا، فلا إشكال في كون كل واحد منهم لا أحد أظلم منه. والثاني- أن صلة الموصول تعين كلل واحد في محله. وعليه فالمعنى في قوله: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن ذُكِّرَ بِآيِاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا}. لا أحد أظلم ممن ذكر فأعرض أظلم ممن ذكر بآيات ربه فأعرض عنها. وفي قوله: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افترى عَلَى الله كَذِبًا} [الأنعام: 21]، لا أحد من المفترين أظلم ممن افترى على الله كذبًا، وهكذا. والأول أولى. لأنه جار على ظاهر القرآن ولا إشكال فيه. ممن اختاره أبو حيان في البحر.
قوله تعالى: {إِنَّا جَعَلْنَا على قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا} الآية.
ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة: أنه جعل على قلوب الظالمين المعرضين عن آيات الله إذا ذكروا بها- أكنة أي أغطية تغطي قلوبهم فتمنعها من إدراك ما ينفعهم مما ذكروا به. وواحد الأكنة كنان، وهو الغطاء. وأنه جعل في آذانهم وقرًا، أي ثقلًا يمنعها من سماع ما ينفعهم من الآيات التي ذكروا بها.
وهذا المعنى أوضحه الله تعالى في آيات أخر. كقوله: {خَتَمَ الله على قُلُوبِهمْ وعلى سَمْعِهِمْ وعلى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عظِيمٌ} [البقرة: 7]، وقوله: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتخذ إلهه هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ الله على عِلْمٍ وَخَتَمَ على سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ على بَصَرِهِ غِشَاوَةً} [الجاثية: 23] الآية، وقوله تعالى: {وَإِذَا قَرَأْتَ القرآن جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالآخرة حِجَابًا مَّسْتُورًا وَجَعَلْنَا على قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وفي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي القرآن وَحْدَهُ وَلَّوْاْ على أَدْبَارِهِمْ نُفُورًا} [الإسراء: 45-46]، وقوله: {أولئك الذين لَعَنَهُمُ الله فَأَصَمَّهُمْ وأعمى أَبْصَارَهُمْ} [محمد: 23]، وقوله: {مَا كَانُواْ يَسْتَطِيعُونَ السمع وَمَا كَانُواْ يُبْصِرُونَ} [هود: 20]. والآيات بمثل ذلك كثيرة جدًا.
فإن قيل: إذا كانوا لا يستطيعون السمع ولا يبصرون ولا يفقهون، لأن الله جعل الأكنة المانعة من الفهم على قلوبهم. والوقر الذي هو الثقل المانع من السمع في آذانهم فهم مجبورون. فما وجه تعذيبهم على شيء لا يستطيعون العدول عنه والانصراف إلى غيره؟!
فالجواب- أن الله جل وعلا بين في آيات كثيرة من كتابه العظيمك أن تلك الموانع التي يجعلها على قلوبهم وسمعم وابصارهم، كالختم والطبع والغشاوة والأكنة، ونحو ذلك- إنما جعلها عليهم جزاء وفاقًا لما بادروا إليه من الكفر وتكذيب الرسل باختيارهم، فأزاغ الله قلوبهم بالطبع والأكنة ونحو ذلك، جزاء على كفرهم، فمن الآيات الدالة على ذلك قوله تعالى: {بَلْ طَبَعَ الله عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ} [النساء: 155] أي بسبب كفرهم، وهو نص قرآني صريح في أن كفرهم السابق هو سبب الطبع على قلوبهم. وقوله: {فَلَمَّا زاغوا أَزَاغَ الله قُلُوبَهُمْ} [الصف: 5] وهو دليل أيضًا واضح على أن سبب إزاعة الله قلوبهم هو زيغهم السابق. وقوله: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُواّ ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ على قُلُوبِهِمْ} [المنافقون: 3] وقوله تعالى: {فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ الله مَرَضًا} [البقرة: 10] الآية، وقوله: {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُواْ بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} [الأنعام: 110]، وقوله تعالى: {كَلاَّ بَلْ رَانَ على قُلُوبِهِمْ مَّا كَانُواْ يَكْسِبُونَ} [المطففين: 14]، إلى غير ذلك من الآيات الدالة على أن الطبع على القلوب ومنعها من فهم ما ينفع عقاب من الله على الكفر السابق على ذلك. وهذا الذي ذكرتا هو وجه رد شبه الجبرية التي يتمسكون بها في هذه الآيات المذكورة وأمثالها في القرآن العظيم. وبهذا الذي قررنا يحصل الجواب أيضًا عن سؤال يظهر لطالب العلم فيما قررنا: وهو أن يقول: قد بينتم في الكلام على الآية التي قبل هذه أن جعل الأكنة على القلوب من نتائج الإعراض عن آيات الله عند التذكير بها، مع أن ظاهر الآية يدل عكس ذلك من الإعراض المذكور سببه هو جعل الأكنة على القلوب، لأن {إن} من حروف التعليل كما تقرر في الأصول في مسلك الإيماء والتنبيه، كقولك: اقطعه إنه سارق، وعاقبه إنه ظالم، فالمعنى: اقطعه لعلة سرقته، وعاقبه لعلة ظلمة.
وكذلك قوله تعالى: {فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ إِنَّا جَعَلْنَا على قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً} [الكهف: 57] أي أعرض عنها لعلة جعل الأكنة على قلوبهم. لأن الآيات الماضية دلت على أن الطبع الذي يعبر عنه تارة بالطبع، وتارة بالختم، وتارة بالأكنة، ونحو ذلك- سببه الأول الإعراض عن آيات الله والكفر بها كما تقدم إيضاحه.
وفي هذه الآية الكريمة سؤالان معروفان: الأول- أن يقال: ما مفسر الضمير في قوله: {ان يفقهوه} وقد قدمنا أنه الآيات في قوله: {ذُكِّرَ بِآيِاتِ رَبِّهِ} بتضمني الآيات معنى القرآن. فقوله: {أن يفقهوه} أي القرآن المعبر عنه بالآيات كما تقدم إيضاحه قريبًا.
السؤال الثاني- أن يقال: ما وجه إفراد الضمير في قوله: {ذكر} وقوله: {أعرض عنها} وقوله: {وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ} مع الإتيان بصيغة الجمع في الضمير في قوله: {إِنَّا جَعَلْنَا على قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا} مع أن مفسر جميع الضمائر المذكورة واحد، وهو الاسم الموصول في قوله: {مِمَّن ذُكِّرَ بِآيِاتِ رَبِّهِ} الآية.
والجواب- هو أن الإفراد باعتبار لفظ {من} والجمع باعتبار معناها، وهو كثير في القرآن العظيم. والتحقيق في مثل ذلك جواز مراعاة اللفظ تارة، ومراعاة المعنى تارة أخرى مطلقًاز خلافًا لمن زعم أن مراعاة اللفظ بعد مراعة المعنى لا تصح. والدليل على صحة قوله تعالى: {وَمَن يُؤْمِن بالله وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَدًا قَدْ أَحْسَنَ الله لَهُ رِزْقًا} [الطلاق: 11] فإنه في هذه الآية الكريمة راعى لفظ {من} أولًا فأفرد الضمير في قوله: {يؤمن} وقوله: {ويعمل} وقوله: {يُدْخِلْهُ} ووراعى المعنى في قوله: {خالدين} فأتى فيه بصيغة الجمع، ثم راعى اللفظ بعد ذلك في قوله: {قَدْ أَحْسَنَ الله لَهُ رِزْقًا} وقوله: {أن يفقهوه} فيه وفي كل من يشابهه من الألفاظ وجهان معرفوان لعماء التفسير: أحدهما- أن المعنى جعلنا على قلوبهم أكنة لئلا يفقهوه. وعليه فلا النافية محذوفة دل المقام عليها. وعلى هذا القول هنا اقتصر ابن جرير الطبري. والثاني- أن المعنى جعلنا على قلوبهم أكنة كراهة أن يفقهوهن وعلى هذا فالكلام على تقدير مضاف، وأمثال هذه الاية في القرآن كثيرة. وللعلماء في كلها الوجهان المذكوران كقوله تعالى: {يُبَيِّنُ الله لَكُمْ أَن تَضِلُّواْ} [النساء: 176] أي لئلا تضلوا، أو كراهة أن تضلوا. وقوله: {إِن جَاءَكُمْ فَاسِقُ بِنَبَإٍ فتبينوا أَن تُصِيببُواْ قَوْمَا بِجَهَالَةٍ} [الحجرات: 6] أي لئلا تصيبوا، أو كراهة أن تصيبوا، وأمثال ذلك كثيرة في القرآن العظيم.
وقوله تعلى: {أن يفقهوه} أي يفهموه. فالفقه: الفهم، ومنه قوله تعالى: {فَمالِ هؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا} [النساء: 78] أي يفهمونه، وقوله تعالى: {قَالُواْ ياشعيب مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِّمَّا تَقُولُ} [هود: 91] أي ما نفهمه. والوقر: الثقل. وقال الجوهري في صحاحه: الوقر- بالفتح، الثقل في الأدن. والوقر- بالكسر: الحمل، يقال جاء يحمل وقره، أوقر بعيرره وأكثر ما يستعمل الوقر في حمل البغال والحمال اهـ. وهذا الذي ذكره الجوهري وغيره جاء به القرآن، قال في ثقل الأذن: {وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا} وقال في الحمل: {فالحاملات وِقْرًا} [الذاريات: 2].
قوله تعالى: {وَإِن تَدْعُهُمْ إلى الهدى فَلَنْ يهتدوا إِذًا أَبَدًا} الآية.
بين في هذه الآية الكريمة: أن الذين جعل الله على قلوبه أكنة تمنعهم أن يفقهوا ما ينفعهم من آيات القرآن التي ذكروا بها لا يهتدون أبدًا، فلا ينفع فيه دعاؤك إياهم إلى الهدى. وهذا المعنى الذي اشار له هنا من أن من اشقاهم الله لا يب\نفع فيهم التذكير جاء مبينًا في مواضع أخر، كقوله: {إِنَّ الذين حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حتى يَرَوُاْ العذاب الأليم} [يونس: 96-97]، وقوله تعالى: {كَذَلِكَ سَلَكْنَاهُ فِي قُلُوبِ المجرمين لاَ يُؤْمِنُونَ} [الشعراء: 200-201]، وقوله تعالى: {وَمَا تُغْنِي الآيات والنذر عَن قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ} [يونس: 101]، وقوله تعالى: {وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَن تُؤْمِنَ إِلاَّ بِإِذْنِ الله وَيَجْعَلُ الرجس عَلَى الذين لاَ يَعْقِلُونَ} [يونس: 100]، وقوله تعالى: {إِن تَحْرِصْ على هُدَاهُمْ فَإِنَّ الله لاَ يَهْدِي مَن يُضِلُّ وَمَا لَهُمْ مِّن نَّاصِرِينَ} [النحل: 37].
وهذه الآية وأمثالها في القرآن فيه وجهان معروفان عند العلماء.
أحدهما- أنها في الذين سبق لهم في علم الله أنهم أشقياء، عياذًا باللهه تعالى.
والثاني- أن المراد أنهم كذلك ما داموا متلبسين بالكفر. فإن هداهم الله إلى الإيمان وأنابوا زال ذلك المانع، والأول أظهر والعلم عند الله تعالى. والفاء في قوله: {فلن يهتدوا} لأن الفعل الذي بعد {لن} لا يصلح أن يكون شرطاَ {إن} ونحوها. والجزاء إذا لم يكن صالحًا لأن يكون شرطًا لإن ونحوها- لزم اقترانه بالفاء. كما عقده في الخلاصة بقوله:
واقرن بفاحتما جوابًا لو جعل ** شرطًا لأن أو غيرها لم ينجعل

وقوله في هذه الآية الكريمة {إذا} جزاء وجواب. فدل على انتفاء اهتدائهم لدعوة الرسول صلى الله عليه وسلم، بمعنى أنهم جعلوا ما يجب أن يكون سببًا للاهتداء سببًا لاتنفائه. لأن المعنى: فلن يهتدوا إذا دعوتهم- ذكر هذا المعنى الزمخشري، وتبعه أبو حيان في البحر. وهذا المعنى قد غلطا فيه، وغلط فيه خلق لا يحصى كثرة من البلاغيين وغيرهم.
وأيضاح ذلك- أن الزنخشري هنا وأبا حيان ظنا أن قوله: {وَإِن تَدْعُهُمْ إلى الهدى فَلَنْ يهتدوا إِذًا أَبَدًا} شرط وجزاء، وأن الجزاء مرتب على الشرط كترتيب الجزاء على ما هو شرط فيه. ولذا ظنا أن الجزاء الذي هو عدم الاهتداء المعبر عنه في الآية بقوله: {فَلَنْ يهتدوا} مرتب على الشرط الذي هو دعاؤه إياهم المعبر عنه في الآية بقوله: {وَإِن تَدْعُهُمْ إلى الهدى} المشار إليه أيضًا بقوله: {إذًا} فصار دعاؤه إياهم سبب انتفاء اهتدائهم وهذا غلط.
لأن هذه القضية الشرطية في هذه الآية الكريمة ليسبت شرطية لزومية، حتى يكون بين شرطها وجزائها ارتباط، بل هي شرطية اتفاقية، والشرطية الاتفاقيه لا ارتباط أصلًا بين طرفيها، فليس أحدهما سببًا في الآخر، ولا ملزومًا ولا لازمًا له، كما لو قلت: إن كان الإنسان ناطقًا فالفرس صاهل- فلا ربط بين الطرفين، لأن الجزاء في الاتفاقية له سبب آخر غير مذكور، كقولك: لو لم يخف الله لم يعصه، لأن سبب انتفاء العصيان ليس هو عدم الخوف الذي هو الشرط، بل هو شيء آخر غير مذكور، وهو تعظيم الله جل وعلا، ومحبته المانعة من معصيته. وكذلك قوله هنا: {فَلَنْ يهتدوا إِذًا أَبَدًا} سبه الحقيقي غير مذكور معه فليس هو قوله: {وإن تدعهم} كما ظنه الزمخشري وأبو حيان وغيرهما. بل سببه هو إرادة الله جل وعلا انتفاء اهتدائهم على وفق ما سبق في علمه أزلًا.
ونظير هذه الآية الكريمة في عدم الارتباط بين طرفي الشرطية قوله تعالى: {قُل لَّوْ كُنتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الذين كُتِبَ عَلَيْهِمُ القتل إلى مَضَاجِعِهِمْ} [آل عمران: 154] لأن سبب بروزهم غلى مضاجعهم شيء آخر غير مذكرو في الآية، وهو ما سبق في علم الله من أن بروزهم إليها لا محالة واقع، وليس كينونتهم في بيوتهم المذكورة في الآية.
وكذلك قوله تعالى: {قُل لَّوْ كَانَ البحر مِدَادًا لِّكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ البحر} [الكهف: 109] الآية، إلى غير ذلك من الآيات. وقد أوضحت الفرق بين الشرطية اللزومية والشرطية الاتفاقية في أرجوزتي في المنطق وشرحي لها في قولي:
مقدم الشرطية المتصلة ** مهما تكن صحبة ذلك التال له

لموجب قد اقتضاها كسبب ** فهي اللزومية ثم إن ذهب

موجب الاصطحاب ذا بينهما ** فالاتفاقية عند العلما

ومثال الشرطية المتصلة اللزومية قولك: كلما كانت الشمس طالعة كان النهار موجودًا، لظهور التلازم بين الطرفين، ويكفي في ذلك حصول مطلق اللازمية دون التلازم من الطرفين، كقولك: كلما كان الشيء إنسانًا كان حيوانًا، إذا لا يصدق عكسه.
فلو قلت: كلما كان الشيء حيوانًا كان إنسانًا لم يصدق، لأن اللزوم في أحد الطرفين لا يقتضي الملازمة في كليهما، ومطلق اللزوم تكون به الشرطية لزومية، أما إذا عدم اللزوم من أصله بين طرفيها فهي اتفاقية. ومثالها: كما كان اللإنسان ناطقًا كان الحمار ناهقًا. وبسبب عدم التنبه للفرق بين الشرطية اللزومية، والشرطية الاتفاقية- ارتبك خلق كثير من النحويين والبلاغيين في الكلام على معنى لو لأنهم أرادوا أن يجمعوا في المعنى بين قولك: لو كانت الشمس طالعة لكان النهار موجودًا. ولبين قولك: لو لم يخف الله لم يعصه، مع أن الشرط سبب في الجزاء في الأول، لأنها شرطية لزومية، ولا ربط بينهما في الثاني لأنها شرطية اتفاقية. ولا شك أن من أراد أن يجمع بين المفترقين ارتبك، والعلم عند الله تعالى.
قوله تعالى: {وَرَبُّكَ الغفور ذُو الرحمة} الآية.
ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة: أنه غفور، أي كثير المغفرة، وأنه ذو الرحمة يرحم عباده المؤمنين يوم القيامة، ويرحم الخلائق في الدنيا.
وبين في مواضع أخر: أنه ههذا المغفرة شاملة لجميع الذنوب بمشيئته جل وعلا إلا الشرك. كقوله: {إِنَّ الله لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ} [النساء: 48]، وقوله: {إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بالله فَقَدْ حَرَّمَ الله عَلَيهِ الجنة} [المائدة: 72].
وبين في موضع آخر: أن رحمته واسعةن وأنه سيكتبها للمتقين. وهو قوله: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزكاة} [الأعراف: 156] الآية.
وبين في مواضع أخر سعة مغفرته ورحمته: كقوله: {إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ المغفرة} [النجم: 32]، وقوله: {إِنَّ الله يَغْفِرُ الذنوب جَمِيعًا} [الزمر: 53]. ونحو ذلك من الآيات.